سورة النحل - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


قلت: {لكم منه شراب}: يحتمل أن يتعلق بأنزل، أو يكون في موضع خبر {شراب}، أو صفة لماء؛ و{مواخر}: جمع ماخرة، يقال: مخرت السفينة الماء مخرًا: شقّته، وقيل: المخر: صوت جَرْىِ الفلك في البحر من هبوب الريح. وقيل: معناه: تجيء وتذهب بريح واحدة. و{لتبتغوا}: عطف على {لتأكلوا}، و{أن تميد}: مفعول من أجله، أي: كراهة أن تميد بكم. و{أنهارًا وسُبلاً}: مفعول بمحذوف، أي: وخلق أو وجعل أنهارًا، وقيل: معطوف على {رواسي}؛ لأن ألقى، فيه معنى الجعل، و{علامات}: عطف على {أنهارًا وسبلاً}، أو نصب على المصدر، أي: ألقى ذلك؛ لعلكم تعتبرون، وعلامات دالة على وحدانيته.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {هو الذي أنزل من السماء} أي: السحاب، أو جانب السماء، {ماء}: مطراً {لكم منه شراب} تشربونه بلا واسطة، أو بواسطة العيون والأنهار والآبار؛ لأنه يُحبس فيها، ثم يشرب منها، لقوله: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الأَرْضِ} [الزُّمَر: 21]، وقوله: {فَأَسْكَنَّاهُ فِى الأَرْضِ} [المؤمنون: 18]، {ومنه شجرٌ} أي: ومنه يكون شجر، يعني: الشجر الذي ترعاه المواشي، وقيل: كل ما نبت على الأرض فهو شجر، {فيه تُسِيمُون}: ترعون مواشيكم، من أسام الماشية: رعاها، وأصلها: السومة، التي هي العلامة؛ لأنها تؤثر بالرعي علامات.
{يُنبتُ لكم به الرزعَ} وقرأ أبو بكر بالنون؛ على التفخيم، {والزيتونَ والنخيلَ والأعناب ومن كل الثمرات} أي: ومن بعض كل الثمرات؛ إِذْ لم ينبت في الأرض كل ما يمكن من الثمار. قال البيضاوي: ولعل تقديم ما يسام فيه على ما يؤكل منه؛ لأنه سيصير غذاءً حيوانيًّا هو أشرف الأغذية- يعني اللحم-، ومن هذا: تقديم الزرع، والتصريح بالأجناس الثلاثة وترتيبها. اهـ.
{إن في ذلك لآية لقوم يتفكّرون}، فيستدلون على وجود الصانع وباهر قدرته، فإن من تأمل الحبة تقع في الأرض يابسة، ويصل إليها نداوة تنفذ فيها، فينشق أعلاها، ويخرج منه ساق الشجر، وينشق أسفلها فيخرج منه عروقها، ثم ينمو ويخرج منه الأوراق والأزهار، والأكمام والثمار، ويشتمل كل منها على أجسام مختلفة الأشكال والطبائع، مع اتحاد المواد، عَلِمَ أن ذلك ليس إلا بفعل فاعل مختار، مقدس عن منازعة الأضداد والأنداد، ولعل وصل الآية به؛ لذلك. قاله البيضاوي باختصار.
{وسخَّر لكم الليلَ والنهارَ والشمس والقمرَ والنجومَ}؛ بأن هيأها لمنافعكم، {مسخراتٍ بأمره}، أي: مذللات لما يريد منها، وهو حال من الجميع، أي: نفعكم بها حال كونها مسخرات لله، منقادة لحكمه، أو لما خلقن له، {إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} أي: لأهل العقول السليمة الصافية من ظلمة الغفلة والشهوات، وإنما جمع هنا، دون ما قبله وما بعده؛ لأن الأولى راجعة إلى إنزال المطر، وهو متحد، والثالثة راجعة إلى ما ذرأ في الأرض، وهو متحد في الجنس والهيئة، بخلاف العوالم العلوية، فإنها مختلفة في الجنس والهيئة.
وقال البيضاوي: جمع الآية وذكر العقل؛ لأنها تتضمن أنواعًا من الدلالة ظاهرة لذوي العقول السليمة، غير مُحْوِجَةٍ إلى استيفاء فكر، كأحوال النبات. اهـ.
{وما ذرأ} أي: وسخر لكم ما ذرأ، فهو عطف على الليل، أي: سخر لكم ما خلق لكم في الأرض من حيوانات ونبات، {مختلفاً ألوانه}؛ أبيض وأسود، أحمر وأصفر، مع اتحاد المادة، فالماء واحد والزهر ألوان، {إن في ذلك لآية لقوم يذّكرون}؛ يتذكرون أن اختلافها في الألوان والطبائع، والهيئات والمناظر، ليس إلا بصنع صانع حكيم.
{وهو الذي سخَّر البحرَ}: ذلله بحيث هيأه للتمكن من الانتفاع به؛ بالركوب فيه، والاصطياد، والغوص، {لتأكلوا منه لحمًا طريًّا} هو السمك، ووصفة بالطراوة؛ لأنه أرطب اللحوم، فيسرع إليه الفساد، فيسارع إلى أكله طريًّا، ولإظهار قدرته في خلقه؛ عذبًا طريًّا في ماء زُعاق أُجاج، واحْتَج به مالك على أن من حلف ألا يأكل لحمًا حنث بأكل السمك، وأجيب بأن مبني الأيمان على العُرف، وهو لا يُفهم منه عند الإطلاق؛ ألا ترى أن الله سمى الكافر دابة، ولا يحنث من حلف ألا يركب دابة بركوبه. قاله البيضاوي. ويجاب بالاحتياط؛ فالحنث يقع بأدنى شيء، بخلاف البِر، لا يقع إلا بأتم الأشياء.
{وتستخرجوا منه حِلْيةً}؛ كاللؤلؤ والمرجان، {تلْبسونها}؛ يلبسها نساؤكم، وأسند اللباس إليهم؛ لأن لباس النساء تزين للرجال، فكأنه مقصودٌ لهم، {وترى الفلك}: السفن {مواخر فيه}؛ جواري فيه تمخر الماء، أي: تشقه، أو تُصوت من هبوب الريح، {ولتبتغوا من فضله}: من سعة رزقه؛ بركوبه للتجارة، أو: وترى الفلك جواري فيه؛ لتركبوها، ولتبتغوا من سعة رزقه. قال ابن عطية: فيه إباحة ركوب البحر للتجارة وطلب الأرباح. اهـ. {ولعلكم تشكرون} أي: تعرفون نعم الله فتقوموا بشكرها. ولعل تخصيصه بتعقيب الشكر؛ لأنه أقوى في باب الإنعام؛ من حيث جعل المهالك سببًا للانتفاع، وتحصيل المعاش. قاله البيضاوي.
{وألقى في الأرض رواسي}؛ جبالاً رواسي أرست الأرض؛ كراهة {أن تميد بكم}؛ تميل وتضطرب؛ لأن الأرض قبل أن تُخلق فيها الجبال كانت كرة خفيفة بسيطة، وكان من حقها أن تتحرك كالسفينة على البحر، فلما خُلقت الجبال تقاومت جوانبها؛ بثقلها نحو المركز، فصارت كالأوتاد التي تمنعها عن الحركة. وقيل: لما خلق الله الأرض جعلت تمور- أي: تتحرك- فقالت الملائكة: ما يستقر أحد على ظهرها، فأصبحت وقد أرْسيَتْ بالجبال. {وأنهارًا} أي: وجعل فيها أنهارًا تطرد؛ لسقي الناس والبهائم، وسائر المنافع، وذكره بعد الجبال؛ لأن الغالب انفجارها منها، {وسُبلاً} أي: وجعل فيها طُرقًا {لعلكم تهتدون} لمقاصدكم، أو لمعرفة ربكم، بالنظر في دلالة هذه المصنوعات المتقدمة، على صانعها.
{و} جعل فيها {علاماتٍ}: معالم يَسْتَدِلُّ بها السابلة على معرفة الطرق؛ من الجبال، والمناهل، والرياح، وغير ذلك، {وبالنجم هم يهتدون} إلى الطرق بالليل، في البراري والبحار، والمراد بالنجم: الجنس، بدليل قراءة: {وبالنُّجُمِ}؛ بضمتين؛ على الجمع.
وقيل: المراد: الثريا، والفرقدان وبنات نعش، والجَدْي. والضمير لقريش؛ لأنهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة، مشهورين بالاهتداء في مسايرهم بالنجوم، وإخراج الكلام عن سنن الخطاب، وتقديم النجم، وإقحام الضمير؛ للتخصيص، كأنه قيل: وبالنجم خصوصًا، هؤلاء خصوصًا يهتدون، يعني: قريشًا، فالاعتبار بذلك، والشكر عليهم ألزم لهم وأوجب عليهم. اهـ. وأصله للزمخشري.
الإشارة: هو الذي أنزل من سماء الغيوب ماء، أي: علمًا لدنيًا تحيا به القلوب، وتتطهر به النفوس من أدناس العيوب. لكم منه شراب، خمرة تحيا بها الأرواح، وتغيب عن حضرة الأشباح، ويخرج منه على الجوارح أشجار العمل، تثمر بالأذواق، فيه تسيمون، أي: في أذواق العمل ترعون بنفوسكم وقلوبكم، ثم ترحلون عنه إلى حلاوة شهود ربكم، فمن وقف مع حلاوة العمل، أو المقامات أو الكرامات، بقي محجوبًا عن ربه، وعليه نبّه صاحب البردة بقوله:
وَراعِها وهْيَ في الأعْمَالِ سَائِمَةٌ *** وإنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ المَرْعَى فلا تُسِم
وقال في الحكم: (ربما وقفت القلوب مع الأنوار، كما حُجِبَت النفوس بكثائف الأغيار).
وقال الششتري:
وقد تحْجُبُ الأنوار للعبْدِ مثْل ما *** تبعد من إظلام نفْس حوَتْ ضِغنا
يُنبت بذلك العلم طعام نَفوسكم من قوت الشريعة، ومصباح قلوبكم من عمل الطريقة، وثمرة الأعمال في عوالم الحقيقة، وفواكه العلوم من مخازن الفهوم. وسخر لكم ليل القبض، ونهار البسط؛ لتسكنوا فيه؛ لِمَا خصكم فيه من مقام التسليم والرضا، ولتبتغوا من فضله؛ من فيض العلوم وكشف الغطاء، فتشرق حينئذ شمس العرفان، ويستنير قمر الإيمان، وتطلع نجوم العلم، كل مسخر في محله، لا يستتر أحد بنور غيره، وهذا مقام أهل التمكين، يستعملون كل شيء في محله. وما ذرأ لكم في أرض نفوسكم من أنواع العبادات وأحوال العبودية، متلونة باعتبار الأزمنة والأمكنة، وهو الذي سخر بحر المعاني؛ لتأكلوا منه لحمًا طريًا؛ علمًا جديدًا لم يخطر على قلب بشر، وتستخرجوا منه جواهر ويواقيت من الحِكَم، تلبسونها وتتزين قلوبكم وألسنتكم بها.
وترى الفلك، أي: سفن الفكرة، فيه مواخر؛ عائمة في بحر الوحدة، بين أنوار الملكوت وأسرار الجَبروت؛ لتبتغوا من فضله، وهي معرفة الحق بذاته وأسمائه وصفاته، ولعلكم تشكرون، فتقيدوا هذه النعم الجسام؛ لئلا تزول. وألقى في أرض البشرية جبال العقول؛ لئلا يلعب بها ريحُ الهوى، وأجرى عليها أنهارًا من العلوم حين انزجرت عن هواها، وجعل لها طُرقًا تهتدي بها إلى معرفة ربّها، فَتهتدي أولاً إلى نجم الإسلام، ثم إلى قمر توحيد البرهان، ثم إلى شهود شمس العرفان. وبالله التوفيق.


قلت: {وما يشعرون أيان يبعثون}، الضمير الأول للأصنام، والثاني للكفار الذين عبدوهم، وقيل: للأصنام فيهما، وقيل: للكفار فيهما، و{لا جرم}: إما أن يكون بمعنى لا شك، أو لا بدّ، أو تكون {لا} نفيًا لِمَا تقدم. و {جَرَم}: فعل، بمعنى وجب، أو حق، و{أن الله}: فاعل بجَرَم.
{يقول الحقّ جلّ جلاله}: {أفمن يَخلُقُ} كل شيء، ويَقدر على كل شيء، {كمن لا يَخْلُق} شيئًا، ولا يقدر على شيء، بل هو أعجز من كل شيء؟ وهو إنكار على من أشرك مع الله غيره، بعد إقامة الدلائل المتكاثرة على كمال قدرته، وباهر حكمته، بذكر ما تقدم من أنواع المخلوقات وبدائع المصنوعات، وكان حق الكلام: أفمن لا يخلق كمن يخلق، لكنه عكس؛ تنبيهًا على أنهم، بالإشراك بالله، جعلوه من جنس المخلوقات العجزة، شبيهًا بها. والمراد بمن لا يخلق، كل ما عُبد من دون الله، وغلب أولي العلم منهم، فعبَّر بمن، أو يريد الأصنام، وأجراها مجرى أولي العلم؛ لأنهم سموها آلهة، ومن حق الإله أن يعلم، أو للمشاكلة بينه وبين من يخلق. {أفلا تذكَّرون}؛ فتعرفوا فساد ذلك؛ فإنه لظهوره كالحاصل للعقل الذي يحضر عنده بأدنى تذكر والتفات.
ولما ذكر أنواعًا من المخلوقات على وجه الاستدلال على وحدانيته- وفي ضمنها: تعداد النِعَم على خلقه- أعقبها بقوله: {وإن تعدوا نِعمةَ الله لا تُحصوها} أي: لا تطيقوا عدها، فضلاً أن تطيقوا القيام بشكرها. ثم أعقبها بقوله: {إنَّ الله لغفور رحيم}؛ تنبيهًا على أن العبد في محل التقصير، لولا أن الله يغفر له تقصيره في أداء شكر نعمه، ويرحمه ببقائها مع تقصيره في شكرها.
{والله يعلم ما تُسِرُّون وما تُعلنون} من عقائدكم وأعمالكم، وهو وعيد لمن كفر النعم وأشرك مع الله غيره، سرًا أو علانية، ثم قال تعالى: {والذين تدعون} أي: والأصنام الذين تعبدونهم {من دون الله لا يَخْلُقون شيئًا}؛ لظهور عجزهم. لَمَّا نفى المشاركة بين من يخلق ومن لا يخلق، بيَّن أنها لا تخلق شيئًا؛ ليتحقق نفي الألوهية عنها؛ ضرورةً. ثم علل عجزها، وعدم استحقاقها للألوهية بقوله: {وهم يُخْلقون} أي: وهم مخلوقون مفتقرون في وجودهم إلى التخليق، والإله لا بدّ أن يكون واجب الوجود.
وهم، أيضًا، {أمواتٌ غير أحياء} أي: لم تكن لهم حياة قط، ولا تكون، وذلك أغرق في موتها ممن تقدمت له حياة، ثم مات. والإله ينبغي أن يكون حيًا بالذات لا يعتريه الممات. {وما يشعرون أيّان يُبعثون} أي: لا يعلمون وقت بعثهم، أو بعثِ عَبَدَتِهِمْ، فكيف يكون لهم وقت يجازون فيه من عبدهم، والإله ينبغي أن يكون عالمًا بالغيوب، قادرًا على الجزاء لمن عبده؟ وفيه تنبيه على أن البعث من توابع التكليف.
قاله البيضاوي.
قال ابنُ جُزَيْ: نفى عن الأصنام صفة الربوبية، وأثبت لهم أضدادها؛ وهي أنهم مخلوقون غير خالقين، وغير أحياء، وغير عالمين وقت البعث، فلما قام البرهان على بطلان ربوبيتهم، أثبت الربوبية لله وحده، فقال: {إلهكم إله واحد}. اهـ. وهو تصريح بما أقام عليه الحجج والبراهين بما تقدم.
ثم ذكر سبب إصرارهم على الكفر- وهو إنكار البعث والتكبر- فقال: {فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم مُنْكِرةٌ وهم مستكبرون} أي: فالمنكرون للبعث قلوبهم منكرة لوحدانيته تعالى، وهم مستكبرون عن اتّباع الرسل فيما جاؤوا به، والخضوع لهم؛ لأن المؤمن بالآخرة يكون طالبًا للدلائل، متأملاً فميا يسمع، فينتفع به، خاضعًا للحق، متبعًا لمن جاء به، بخلاف الكافر، يكون حاله بالعكس؛ منهمكًا في الغفلة، متبعًا للهوى، يُنكر بقلبه ما لا يعرف إلا بالبرهان، اتّباعًا للأسلاف، وتقليدًا لهم، وركونًا إلى المالوف.
قال تعالى: تهديدًا لمن هذا وصفه: {لا جَرَمَ}: لا بدّ، أو لا شك، أو حَقٌّ {أنَّ الله يعلم ما يُسرون وما يعلنون}، فيجازيهم عليه؛ {إنه لا يحب المستكبرين} مطلقًا، فضلاً عن الذين استكبروا عن توحيده واتّباع رسوله. ومفهومه: أنه يحب المتواضعين الخاضعين للحق، ولمن جاء به، وهم المؤمنون. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد تضمنت الآية ثلاث خصال من خصال أهل التوحيد: الأولى: رفع الهمة عن الخلق، وتعلقها بالخالق في جميع المطالب والمآرب؛ إذ لا يترك العبد من هو خالق كل شيء، قادر على كل شي، دائم لا يموت، ويتعلق بعبد عاجز ضعيف، لا يقدر على نفع نفسه، فكيف ينفع غيره؟ {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون}، {والذين تدعون من دون الله لا يَخلقون شيئًا وهم يُخلقون أموات غير أحياء}. وأنشدوا في هذا المعنى:
حَرَامٌ على مَنْ وَحَّد الله رَبَّهُ *** وأفْرَدَهُ أَنْ يَحْتَذِي أحدًا رِفْدَا
فَيَا صَاحِبي قفْ بي عَلَى الحَقِّ وَقْفةً *** أَمُوتُ بها وَجْدًا وأحْيَا بِها وَجْدا
وقُلْ لمُلوكِ الأرْضِ تَجْهَدُ جُهدها *** فَذَا المُلك مُلكٌ لا يُباع ولا يُهدى
والخصلة الثانية: تذكر البعث وما بعده، وتقريبُه وجعله نصب العين؛ إذ بذلك يحصل الزهد في هذه الدار الفانية، والاستعداد والتأهب للدار الباقية، وبه تلين القلوب، وتتحقق بعلم الغيوب، وبه يحصل الخضوع للحق، والتعظيم لمن جاء به. بخلاف من أنكره، أو استبعده، قال تعالى: {فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون}.
الخصلة الثالثة: التواضع والخضوع لله، ولمن دعا إلى الله، وهو سبب المحبة من الله، ورفع الدرجات عند الله؛ قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ، ومَنْ تَكَبر وَضَعَهُ الله» وقال أيضًا: «مَنْ تَوَاضَعَ دُون قَدْره، رَفَعَهُ فوق قَدْره» بخلاف المتكبر؛ فإنه ممقوت عند الله، مطرود عن باب الله؛ قال تعالى: {إنه لا يحب المستكبرين}. وفي الحديث: «لاَ يَدْخُلُ الجنَّةَ مَنْ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَرْدلٍ مِنْ كِبْرٍ»، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، «والتكبر: بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس»، أي: جحد الحق، واحتقار الناس. والله تعالى أعلم.


قلت: {ماذا}، يجوز أن يكون اسمًا واحدًا مركبًا منصوبًا ب {أَنزل}، وأن تكون (ما): استفهامية في موضع رفع بالابتداء، و (ذا): بمعنى {الذي}: خبر، وفي أنزل ضميرٌ محذوف، أي: ما الذي أنزله ربكم؟ واللام في {ليحملوا}: لام العاقبة والصيرورة، أي: قالوا: هو أساطير الأولين؛ فأوجب ذلك أن يحملوا أوزارهم وأوزار غيرهم، وقيل: لام الأمر، و{بغير علم}: حال من المفعول في {يُضلونهم}، أو من الفاعل، و{تُشاقُّون}: من قرأه بالكسر؛ فالمفعول: ضمير المتكلم، وهو الله تعالى، ومن قرأه بالفتح؛ فالمفعول محذوف، أي: تشاقون المؤمنين من أجلهم. و{ظالمي أنفسهم}: حال من ضمير المفعول في: {تتوفاهم}.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإذا قيل لهم} أي: كفار قريش: {ماذا أنزل ربكم} على رسوله محمد- عليه الصلاة والسلام-؟ {قالوا}: هو {أساطير الأولين} أي: ما سطره الأولون وكتبوه من الخرافات. وكان النضر بن الحارث قد اتخذ كتب التواريخ، ويقول: إنما يُحدِّث مُحمدٌ بأساطير الأولين، وحديثي أجمل من حديثه. والقائل لهم هم المقتسِمُون، وتسميته، حينئذ، مُنزلاً؛ إما على وجه التهكم، أو على الفَرض والتقدير، أي: على تقدير أنه منزل، فهو أساطير لا تحقيق فيه. ويحتمل أن يكون القائل لهم المؤمنين، فلا يحتاج إلى تأويل.
{ليحملوا أوزارهَم كاملةً يوم القيامة} أي: قالوا ذلك؛ ليُضلوا الناس، فكان عاقبتهم أن حملوا أوزار ضلالهم كاملة، {ومن أوزارِ الذين يُضلونهم}: وبعض أوزار ضلال من كانوا يضلونهم- وهو حصة التسبب في الوقوع في الضلال- حال كونهم {بغير علم} أي: يضلون من لا يعلم أنهم ضُلاّل. وفيه دليل على أن الجاهل في العقائد غير معذور؛ إذ كان يجب عليه أن يبحث عن الحق وأهله، وينظر في دلائله وحُججه.
قال البيضاوي: {بغير علم}: حال من المفعول؛ أي: يضلون من لا يعلم أنهم ضُلاّل، وفائدتها: الدلالة على أن جهلهم لا يعذرهم؛ إذ كان عليهم أن يبحثوا، ويميزوا بين المحق والمبطل. اهـ. وقال المحشي: ففيه ذم تقليد المبطل، وأن مقلده غير معذور، بخلاف تقليد المحق الذي قام بشاهد صدقه المعجزة، أو غير ذلك، كدليل العقل والنقل فيما تعتبر دلالته. اهـ.
قلت: ويجوز أن يكون حالاً من الفاعل، أي: يُضِلُّونَ في حال خلوهم من العلم، فقد جمعوا بين الضلال والإضلال.
قال تعالى في شأن أهل الإضلال: {ألا سَاءَ ما يَزِرُون}، أي: بئس شيئًا يزرونه فعلهم هذا.
{قد مكر الذين من قَبلِهم} أي: دبروا أمورًا ليمكروا بها الرسل، {فأتى اللهُ بُنيانهم من القواعد} أي: قصد ما دبروه من أصله، فهدمه، {فخرَّ عليهم السَّقْفُ من فوقهم}، وصار ما دبروه، وبنوه من المكر، سبب هلاكهم، {وأتاهم العذابُ من حيث لا يشعرون}؛ لا يحتسبون ولا يتوقعون، وهو على سبيل التمثيل.
وقال ابن عباس وغيره: المراد به نمرود بن كنعان، بنى الصرح ببابل، سُمْكُهُ خمسة آلاف ذراع؛ ليترصّد أمر السماء، فبعث الله ريحًا فهدمته، فخرَّ عليه وعلى قومه، فهلكوا، وقيل: إن جبريل عليه السلام هدمه، فألقى أعلاه في البحر، وانجعف من أسفله.
{ثم يَوْمَ القيامة يُخزيهم}: يذلهم ويعذبهم بالنار، {ويقول أين شركائِيَ}، أضافها إلى نفسه؛ استهزاء، أو حكاية لإضافتهم إياها إليه في الدنيا؛ زيادةً في توبيخهم، أي: أين الشركاء {الذين كنتم تُشاقون فيهم}: تعادون المؤمنين في شأنهم، أو تشاقونني في شأنهم؛ فإن مُشاقة المؤمنين كمشاقته، أو تحاربون وتخارجون، فتكونون في شق والحق في شق، {قال الذين أُوتوا العلم}؛ وهم الأنبياء والعلماء الذين كانوا يدعونهم إلى التوحيد، فيشاققونهم ويتكبرون عليهم، أو الملائكة: {إنّ الخزي اليوم والسُّوءَ}: الذلة والعذاب {على الكافرين}. وفائدة قولهم ذلك لهم: إظهارُ الشماتة وزيادة الإهانة، وحكايته، ليكون لطفاً لمن سمعه من المؤمنين، فيزيد حذرًا وحزمًا في الطاعة، وقال الواحدي: إن الخزي اليوم والسوء عليهم لا علينا. اهـ. أي: فيقولونه؛ اعترافًا واستبشارًا بإنجاز ما وعدهم الله، كما قالوا: الحمد لله الذي هدانا لهذه الهداية.
ثم وصفهم بقوله: {الذين تتوفاهم الملائكةُ}؛ تقبض أرواحهم {ظالمي أنفسِهِم}؛ بأن عرضوها للعذاب المخلد، {فألقَوُا السَّلَمَ} أي: استسلموا، وألقوا القياد من أنفسهم، حين عاينوا الموت، قائلين: {ما كنا نعملُ من سُوء}: من كفر وعدوان، يحتمل أن يكون قولهم ذلك قصدوا به الكذب؛ اعتصامًا به، كقولهم: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعَام: 23]، أو يكونوا أخبروا على حساب اعتقادهم في أنفسهم، فلم يقصدوا الكذب، ولكنه كذب في نفس الأمر. قال الحسن: هي مواطن، فمرة يُقرون على أنفسهم، كما قال تعالى: {وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} [الأنعَام: 130]، ومرة يجحدون كهذه الآية، فتجيبهم الملائكة بقولهم: {بلى} قد كنتم تعملون السوء والعدوان، {إن الله عليم بما كنتم تعملون} فهو يجازيكم عليه. وقيل: إن قوله: {فألقَوُا السَّلَمَ} إلى آخر الآية، راجع إلى شرح حالهم يوم القيامة، فيتصل في المعنى بقوله عزّ وجلّ: {أين شركائي الذين كنتم تُشاقون فيهم} إلخ، فيكون الرَّادُ عليهم بقوله: (بلى)، هو الله تعالى، أو: أولو العلم، ويُقوي هذا قوله بعده: {فادخلوا أبواب جهنم}؛ لأن دخولها لا يكون إلا بعد البعث والحساب، لا بعد الموت؛ إذ لا يكون بعد الموت إلا العرض عليها غُدوًا وعشيًا، والمراد بدخول أبوابها، أي: التي تفضي إلى طبقاتها، التي هي بعضها على بعض، وأبوابها كذلك، كل صنف يدخل من بابه المُعَدِّ له، {خالدين فيها فلبئس مثوى} أي: مقام {المتكبرين} جهنم.
الإشارة: وإذا قيل لأهل الغفلة والإنكار: ماذا أنزل ربكم، على قلوب أولياء زمانكم؛ من المواهب وأسرار الخصوصية؟ قالوا: أساطير الأولين، ثم عَوَّقُوا الناس عن الدخول في طريقهم؛ لتطهير قلوبهم، فيحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة؛ حيث ماتوا مصرين على الكبائر وهم لا يشعرون.
ويحملون من أوزار الذين يضلونهم عن طريق الخصوص بغير علم، بل جهلاً وعنادًا وحسدًا، ألا ساء ما يزرون.
قلت: الذي أتلف العوام عن الدين ثلاثة أصناف: علماء السوء، وفقراء السوء- وهم أهل الزوايا والنسبة-، وقراء السوء؛ لأن هؤلاء هم المقتدى بهم، والمنظور إليهم، فإذا رأوهم أقبلوا على الدنيا، وقصروا في الدين، تبعوهم على ذلك؛ فضلوا معهم، فقد ضلوا وأضلوا، وإذا أنكروا على أولياء الله، ومكروا بهم، اقتدوا بهم في ذلك فيتولى الله حفظ أوليائه، ويهدم مكرهم؛ قال تعالى: {فأتى الله بنيانهم من القواعد}... الآية، فإذا كان يوم القيامة أبعدهم عن حضرته، وأسكنهم مع عوام خلقه. فإذا أنكروا ما فعلوا في الدنيا، يقال لهم: {بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون}، فيخلدون في عذاب القطيعة والحجاب، فبئس مثوى المتكبرين. والله تعالى أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8